فصل: تفسير الآيات (68- 70):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: محاسن التأويل



.تفسير الآيات (57- 62):

القول في تأويل قوله تعالى: {نَحْنُ خَلَقْنَاكُمْ فَلَوْلَا تُصَدِّقُونَ أَفَرَأَيْتُم مَّا تُمْنُونَ أَأَنتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخَالِقُونَ نَحْنُ قَدَّرْنَا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ عَلَى أَن نُّبَدِّلَ أَمْثَالَكُمْ وَنُنشِئَكُمْ فِي مَا لَا تَعْلَمُونَ وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الْأُولَى فَلَوْلَا تَذكَّرُونَ} [57- 62].
{نَحْنُ خَلَقْنَاكُمْ} أي: معشر قريش والمكذبين بالبعث، فأوجدناكم بشراً، ولم تكونوا شيئا {فَلَوْلَا تُصَدِّقُونَ} أي: بالخلق، وهم وإن كانوا مقرين به لقوله:
{وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} [لقمان: 25] إلا أنه نزل منزلة العدم والإنكار؛ لأنه إذا لم يقترن بالطاعة والأعمال الصالحة، لا يعد تصديقاً، أو المعنى: فلولا تصدقون البعث، فإن من قدر على الإبداء، قدر على الإعادة.
{أَفَرَأَيْتُم مَّا تُمْنُونَ} أي: ما تقذفونه في الرحم من النطف.
{أَأَنتُمْ تَخْلُقُونَهُ} أي: بجعله بشراً سويّاً.
{أَمْ نَحْنُ الْخَالِقُونَ} أي: بإفاضة الصورة الْإِنْسَاْنية عليه.
{نَحْنُ قَدَّرْنَا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ} أي: كتبنا على كل نفس ذوقه، أي: ومن سبيله ذلك فشأنه أن يرهب من نزوله، ويتأهب لما يخوّف به من بعده، والجملة مقررة لما قبلها بإيذان أنهم في قبضة القدرة، فلا يغترون بالإمهال، بدليل ما قدره عليهم من الموت. وفي قوله تعالى: {بَيْنَكُم} زيادة تنبيه، كأنه بين ظهرانيهم، ثم أكد ما قرره بقوله تعالى: {وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ} أي: بمغلوبين.
{عَلَى أَن نُّبَدِّلَ أَمْثَالَكُمْ} أي: بعد مهلككم، فنجيء بآخرين من جنسكم {وَنُنشِئَكُمْ فِي مَا لَا تَعْلَمُونَ} من صور وأشكال أخرى، فكيف نعجز عن إعادتكم؟
قال الشهاب: والظاهر أن قوله:
{وَنُنشِئَكُمْ} المراد به إذا بدلناكم بغيركم، لا في الدار الآخرة، كما توهم، وهذا كقوله تعالى: {إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ وَيَأْتِ بِآخَرِينَ} [النساء: 133]، {وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الْأُولَى} أي: أنه أنشأكم بعد أن لم تكونوا شيئاً مذكوراً، فخلقكم وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة، {فَلَوْلَا تَذكَّرُونَ} أي: فتعرفون أن الذي قدر على هذه النشأة، وهي البداءة قادر على النشأة الأخرى، وهي الإعادة، وأنها أهون عليه.

.تفسير الآيات (63- 67):

القول في تأويل قوله تعالى: {أَفَرَأَيْتُم مَّا تَحْرُثُونَ أَأَنتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ لَوْ نَشَاء لَجَعَلْنَاهُ حُطَاماً فَظَلَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ إِنَّا لَمُغْرَمُونَ بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ} [63- 67].
{أَفَرَأَيْتُم مَّا تَحْرُثُونَ} أي: ما تحرثون الأرض لأجله، وهو الحب. والحرث: شق الأرض للزراعة، وإثارتها، وإلقاء البذر فيها.
{أَأَنتُمْ تَزْرَعُونَهُ} أي: تنبتونه {أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ} أي: المنبتون، وعن بعض السلف أنه كان إذا قرأ هذه الآية وأمثالها يقول: بل أنت يل ربّ! {لَوْ نَشَاء لَجَعَلْنَاهُ حُطَاماً} أي: أيبسناه قبل استوائه واستحصاده. وأصل الحطام ما تحطم وتفتت لشدة يبسه.
{فَظَلَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ} أي: تعجبون من هلاكه ويبسه بعد خضرته. أو تندمون على اجتهادكم فيه الذي ضاع وخسر. أو تفكهون على ما أصبتم لأجله من المعاصي، فتتحدثون فيه. والتفكه: التنقل بصنوف الفاكهة، وقد استعير للتنقل بالحديث، لأنه ذو شجون.
وقوله تعالى: {إِنَّا لَمُغْرَمُونَ} مقول قول مقدّر، هو حال، أي: قائلين، أو يقولون: إنا لمغرمون، أي: ملزمون غرامة ما أنفقن، أو مهلكون لهلاك رزقنا. من الغرام بمعنى الهلاك قال:
إن يعذِّب يكن غراماً وإن يعـ**ـط جزيلاً فإنه لا يُبالي

{بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ} أي: حرمنا رزقنا.

.تفسير الآيات (68- 70):

القول في تأويل قوله تعالى: {أَفَرَأَيْتُمُ الْمَاء الَّذِي تَشْرَبُونَ أَأَنتُمْ أَنزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنزِلُونَ لَوْ نَشَاء جَعَلْنَاهُ أُجَاجاً فَلَوْلَا تَشْكُرُونَ} [68- 70].
{أَفَرَأَيْتُمُ الْمَاء الَّذِي تَشْرَبُونَ} يعني العذب الصالح للشرب.
{أَأَنتُمْ أَنزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ} أي: السحاب المعبر عنه بالسماء في غير ما آية {أَمْ نَحْنُ الْمُنزِلُونَ} أي: لكم إلى قرار الأرض، ومسلكوه ينابيع فيها.
{لَوْ نَشَاء جَعَلْنَاهُ أُجَاجاً} أي: ملحاً لا يصلح لشرب ولا زرع {فَلَوْلَا تَشْكُرُونَ} أي: نعمة الله عليكم في جعله عذباً فراتاً، لشربكم وزرعكم، وصلاح معايشكم ومنافعكم.
لطيفة:
قال الإمام ابن الأثير في المثل السائر في النوع الحادي عشر من المقالة الثانية، في بحث ورود لام التوكيد في الكلام، وأنها لا تجيء إلا لضرب من المبالغة، في سر مجيء اللام في قوله تعالى: {لَجَعَلْنَاهُ حُطَاماً} دون قوله: {جَعَلْنَاهُ أُجَاجاً} ما مثاله:
أدخلت اللام في آية المطعوم، دون آية المشروب، وإنما جاءت كذلك؛ لأن جعل الماء العذب ملحاً أسهل إمكاناً في العرب والعادة، والموجود من الماء الملح، أكثر من الماء العذب، وكثيراً ما إذا جرت المياهُ العذبة على الأراضي المتغيرة التربة، أحالتها إلى الملوحة، فلم يحتج في جعل الماء العذب ملحاً إلى زيادة تأكيد، فلذلك لم تدخل عليه لام التأكيد المفيدة زيادة التحقيق. وأم المطعوم فإنه جعله حطاماً من الأشياء الخارجة عن المعتاد، وإذا وقع فلا يكون إلا عن سخط من الله شديد، فلذلك قرن بلام التأكيد، زيادة في تحقيق أمره، وتقرير إيجاده. انتهى.

.تفسير الآيات (71- 74):

القول في تأويل قوله تعالى: {أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ أَأَنتُمْ أَنشَأْتُمْ شَجَرَتَهَا أَمْ نَحْنُ الْمُنشِؤُونَ نَحْنُ جَعَلْنَاهَا تَذْكِرَةً وَمَتَاعاً لِّلْمُقْوِينَ فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ} [71- 74].
{أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ} أي: تقدحون، أي: تستخرجونها من الزند، وهو العود الذي تقدح منه.
{أَأَنتُمْ أَنشَأْتُمْ شَجَرَتَهَا أَمْ نَحْنُ الْمُنشِؤُونَ} أي: بل نحن جعلناها مودعة في موضع. وللعرب شجرتان: إحداهما المرخ، والأخرى العفار، إذا أخذ منهما غصنان أخضران فَحُك أحدهما بالآخر، تباين من بينهما شرر النار. وقد تقدم بيانه في آخر سورة يس.
{نَحْنُ جَعَلْنَاهَا تَذْكِرَةً} أي: جعلنا نار الزناد تبصرة في أمر البعث؛ لأن من أخرج النار من الشجر الأخضر المضاد لها، قادر على إعادة ما تفرقت مواده، أو تذكيراً لنار جهنم {وَمَتَاعاً} أي: منفعة {لِّلْمُقْوِينَ} أي: المسافرين الذين ينزلون القواء، وهي القفر. يقال: أقوى إذا نزل القواء، كأصحر إذا دخل الصحراء، فإن الإفعال يكون للدخول في معنى مصدر مجرده. وعن مجاهد: المقوين المستمتعين، المسافر والحاضر.
وعن ابن زيد: هم الجائعون، تقول العرب: أقويت منه كذا وكذا، أي: ما أكلت منه. وأقوت الدار: خلت من ساكنيها وانتفاعهم بها، لأنهم يطبخون بها. ولشدة احتياجهم له، خصوا بالذكر مع انتفاع غيرهم بها.
{فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ} أي: سبِّح اسمه، قال الزمخشري: بأن تقول: سبحان الله، إما تنزيهاً له عما يقول الظالمون الذين يجحدون وحدانيته، ويكفرون نعمته، وإما تعجباً من أمرهم في غمط آلائه وأياديه الظاهرة، وإما شكراً لله على النعم التي عدها ونبه عليها.

.تفسير الآيات (75- 79):

القول في تأويل قوله تعالى: {فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَّوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ فِي كِتَابٍ مَّكْنُونٍ لَّا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ} [75- 79].
{فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ} أي: منازل الكواكب ومركزها البهيجة في السماء. أو بمساقطها ومغاربها، وهي أوقات غيبتها عن الحواس، أو بمساقطها وانتشارها يوم القيامة. و{لا} في {لَا أُقْسِمُ} إما مزيدة للتأكيد. وتقوية الكلام، وقد عهدت زيادتها في كلامهم، كما أوضحه في فقه اللغة وإما لا أقسم بتمامها صيغة من صيغ القسم، على ما ارتضاه بعض المحققين.
{وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَّوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ} أي: لما في القسم من الدلالة على عظيم القدرة، وكمال الحكمة.
{إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ} أي: له كرم وشرف وقدر رفيع لاشتماله على أمهات الحكم والأحكام، وما تنطبق عليه حاجات الأنام على الدوام.
{فِي كِتَابٍ مَّكْنُونٍ} أي: محفوظ مصون، لا يتغير ولا يتبدل. أو محفوظ عن ترداد الأيدي عليه، كغيره من الكتب، بل هو كالدر المصون إلا عن أهله، كما قال: {لَّا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ} اعلم أن في الآية أقوالاً عديدة مرجعها إلى أن المس مجاز أو حقيقة، وأن الضمير عائد للكتاب بمعنى الوحي المتلقى، أو المصحف، وأن {الْمُطَهَّرُونَ} هم الملائكة، أو المتطهرون من الأحداث والأخباث؛ وذلك لاتساع ألفاظهما الكريمة، لما ذكر بطريق الاشتراك أو الحقيقة والمجاز، وهاك ملخص ذلك ولبابه:
فأما أكثر المفسرين، فعلى أنه عني بالآية الملائكة. فنفي مسّه كناية عن لازمه، وهو نفي الاطلاع عليه، وعلى ما فيه. والمراد بـ المطهرين حينئذ إما جنس الملائكة، أو من نزل به وهو روح القدس. وطهارتهم نقاء ذواتهم عن كدورات الأجسام، ودنس الهيولى، أو عن المخالفة والعصيان.
وقال ابن زيد: زعمت كفار قريش أن هذا القرآن تنزلت به الشياطين، فأخبر الله تعالى أنه: {لَّا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ} كما قال: {وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّيَاطِينُ وَمَا يَنبَغِي لَهُمْ وَمَا يَسْتَطِيعُونَ إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ} [الشعراء: 210- 212]. انتهى. قال ابن كثير: وهذا القول قول جيد.
وقال الفرّاء: لا يجد طعمه ولا نفعه إلا من آمن به. ومثله قول محمد بن الفضل: لا يقرؤه إلا الموحدون.
فنفي مسّه كناية عن ترك تقبّله، والاهتداء به، والعناية به، فإن مسّ الشيء سبب حب الملموس، وأثر الإقبال عليه، ورائد الانصياع له، والطهارة حينئذ هي نظافة القلب من دنس الشرك والنفاق، والملكات الرديئة، والغرائز الفاسدة.
وقال آخرون: عني بـ المطهرين المتطهرون من الجنابة والحدث، قالوا: ولفظ الآية خبر، ومعناها النهي، إشارة إلى أن تلك الصفة طبيعة من طبائعه، ولازم من لوازمه، لشرفه وعظم شأنه.
قالوا: والمراد بـ الكتاب المصحف، واحتجوا بما رواه الإمام مالك في موطئه عن عبد الله بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم، أن في الكتاب الذي كتبه رسول الله صلى الله عليه وسلم لعمرو بن حزم: «أن لا يمس القرآن إلا طاهر». وبما روى الدارقطني في قصة إسلام عمر، أن أخته قالت له قبل أن يسلم: إنه رجس و{لَّا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ} إلا أن فيهما مقالاً بيَّنه الحافظ ابن حجر في تلخيص الحبير وأشار له ابن كثير أيضاً. ومع ذلك فالدلالة ليست قطعية، وقد أوضح ذلك الشوكاني في نيل الأوطار وعبارته:
الطاهر يطلق بالاشتراك على المؤمن، والطاهر من الحدث الأكبر والأصغر، ومن ليس على بدنه نجاسة. ويدل لإطلاقه على الأول قوله تعالى: {إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ} [التوبة: 28]، وقوله صلى الله عليه وسلم لأبي هريرة: «المؤمن لا ينجس». وعلى الثاني: {وَإِن كُنتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُواْ} [المائدة: 6]، وعلى الثالث: قوله صلى الله عليه وسلم في المسح على الخفين: «دعهما فإني أدخلتهما طاهرتين»، وعلى الرابع: الإجماع على أن الشيء الذي ليس عليه نجاسة حسية ولا حكمية يسمى طاهراً. وقد ورد إطلاق ذلك في كثير. فمن أجاز حمل المشترك على جميع معانيه، حمله عليه هنا. والمسألة مدونة في الأصول، وفيها مذاهب، والذي يترجح أن المشترك مجمل فيها، فلا يعمل به حتى يبين. وقد وقع الإجماع على أنه لا يجوز للمحدث حدثاً أكبر أن يمس المصحف، وخالف في ذلك داود، واستدل المانعون للجنب بقوله تعالى: {لَّا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ} وهو لا يتم إلا بعد جعل الضمير راجعاً إلى القرآن، والظاهر رجوعه إلى الكتاب، وهو اللوح المحفوظ، لأنه الأقرب. و{الْمُطَهَّرُونَ} الملائكة. ولو سلم عدم الظهور، فلا أقل من الاحتمال، فيمتنع العمل بأحد الأمرين، ويتوجه الرجوع إلى البراءة الأصلية. ولو سلم رجوعه إلى القرآن على التعيين، لكانت دلالته على المطلوب، وهو منع الجنب من مسه، غير مسلمة؛ لأن المطهر من ليس بنجس، والمؤمن ليس بنجس دائماً، لحديث: «المؤمن لا ينجس» وهو متفق عليه، فلا يصح حمل المطهر على من ليس بجنب أو حائض أو محدث أو متنجس بنجاسة عينية، بل تعين حمله على من ليس بمشرك، كما في قوله تعالى: {إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ} لهذا الحديث، ولحديث النهي عن السفر بالقرآن إلى أرض العدوّ. ولو سلم صدق اسم الطاهر على من ليس بمحدث حدثاً أكبر أو أصغر، فقد عرفت أن الراجح كون المشترك مجملاً في معانيه، فلا يعين حتى يبين، وقد دل الدليل هاهنا أن المراد به غيره لحديث «المؤمن لا ينجس»، ولو سلم عدم وجود دليل يمنع من إرادته، لكان تعيينه لمحل النزاع ترجيحاً بلا مرجح، وتعيينه لجميعها استعمالاً للمشترك في جميع معانيه، وفيه الخلاف، ولو سلم رجحان القول بجواز الاستعمال في جميع معانيه، لما صح، لوجود المانع، وهو حديث: «المؤمن لا ينجس». واستدلوا أيضاً بحديث عمرو بن حزم المتقدم، وأجيب بأنه غير صالح للاحتجاج؛ لأنه من صحيفة غير مسموعة، وفي رجال إسناده خلاف شديد، ولو سلم صلاحيته للاحتجاج، لعاد البحث السابق في لفظ طاهر، وقد عرفته.
قال السيد العلامة محمد بن إبراهيم الوزير: إن إطلاق اسم النجس على المؤمن الذي ليس بطاهر من الجنابة أو الحيض أو الحدث الأصغر، لا يصح حقيقة ولا مجازاً ولا لغةً. صرح بذلك في جواب سؤال ورد عليه. فإن ثبت هذا فالمؤمن طاهر دائماً، فلا يتناوله الحديث، سواء كان جنباً أو حائضاً أو محدثاً، أو على بدنه نجاسة.
فإن قلت: إذا تم ما تريد من حمل الطاهرعلى من ليس بمشرك، فما جوابك فيما ثبت في المتفق عليه من حديث ابن عباس أنه صلى الله عليه وسلم كتب إلى هرقل عظيم الروم: «أسلم تسلم، وأسلم يؤتك الله أجرك مرتين، فإن توليت فإنما عليك إثم الأريسيين. و{يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْاْ إِلَى كَلَمَةٍ سَوَاء} إلى قوله {مُّسْلِمُونَ} [آل عمران: 64]»، مع كونهم جامعين بين نجاستي الشرك والاجتناب ووقوع اللمس منهم له معلوم؟
قلت: أجعله خاصة بمثل الآية والآيتين، فإنه يجوز تمكين المشرك من مس ذلك المقدار لمصلحة، كدعائه إلى الإسلام. ويمكن أن يجاب عن ذلك بأنه قد صار باختلاطه بغيره لا يحرم لمسه، ككتب التفسير، فلا تخصص به الآية والحديث. إذا تقرر لك هذا عرفت عدم انتهاض الدليل على منع من عدا المشرك. وقد عرفت الخلاف في الجنب. وأما المحدث حدثاً أصغر، فذهب ابن عباس والشعبي والضحاك وزيد بسلف، والمؤيد بالله والهادوية وقاضي القضاة وداود إلى أنه يجوز له مس المصحف. وقال القاسم وأكثر الفقهاء والإمام يحيى: لا يجوز واستدلوا بما سلف، وقد سلف ما فيه. انتهى كلام الشوكانيّ.
تنبيه في لطف دلالة هذه الآية وما تشير إليه من العلم المكنون:
قال الإمام ابن القيم في إعلام الموقعين في مباحث أمثال القرآن الكريم، ما مثاله: الواجب فيما علق عليه الشارع الأحكام من الألفاظ والمعاني أن لا يتجاوز بألفاظها ومعانيها، ولا يقصّر بها، ويعطي اللفظ حقه، والمعنى مدح الله تعالى أهل الاستنباط في كتابه، وأخبر أنهم أهل العلم، ومعلوم أن الاستنباط إنما هو استنباط المعاني، والعلل ونسبة بعضها إلى بعض، فيعتبر ما يصح منها بصحة مثله وشبهه ونظيره، ويلغى ما لا يصح، هذا الذي يعقله الناس من الاستنباط.
قال الجوهري: الاستنباط كالاستخراج. ومعلوم أن ذلك قدر زائد على مجرد فهم اللفظ فإن ذلك ليس طريقة الاستنباط؛ إذ موضوعات الألفاظ لا تنال بالاستنباط، وإنما تنال به العلل والمعاني والأشباه والنظائر، ومقاصد المتكلم. والله سبحانه ذم من سمع ظاهراً مجرداً فأذاعه وأفشاه، وحمد من استنبط من أولي العلم حقيقة ومعناه يوضحه أن الاستنباط استخراج الأمر الذي من شأنه أن يخفى على غير مستنبطه، ومنه استنباط الماء من أرض البئر والعين. ومن هذا قول علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وقد سئل: هل خصكم رسول الله صلى الله عليه وسلم بشيء دون الناس؟ فقال: لا، والذي فلق الحبة وبرأ النسمة، إلا فهماً يؤتيه الله عبداً في كتابه! ومعلوم أن هذا الفهم قدر زائد على معرفة موضوع اللفظ وعمومه أو خصوصه، فإن هذا قدر مشترك بين سائر من يعرف لغة العرب، وإنما هذا فهم لوازم المعنى ونظائره، ومراد المتكلم بكلامه، ومعرفة حدود كلامه، بحيث لا يدخل فيها غير المراد ولا يخرج منها شيء من المراد. وأنت إذا تأملت قوله تعالى: {إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ فِي كِتَابٍ مَّكْنُونٍ لَّا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ} وجدت الآية من أظهر الأدلة على نبوة النبي صلى الله عليه وسلم، وأن القرآن جاء من عند الله، وأن الذي جاء به روح مطهرة، فما للأرواح الخبيثة عليه سبيل. ووجدت الآية أخت قوله: {وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّيَاطِينُ وَمَا يَنبَغِي لَهُمْ وَمَا يَسْتَطِيعُونَ} [الشعراء: 210- 211]، ووجدتها دالة بأحسن الدلالة على أنه لا يمس المصحف إلا طاهر، ووجدتها دالة أيضاً بألطف الدلالة على أنه لا يجد حلاوته وطعمه إلا من آمن به وعمل به، كما فهمه البخاري من الآية، فقال في صحيحه في باب: {قُلْ فَأْتُواْ بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا} [آل عمران: 93]، {لاَ يَمَسُّهُ} لا يجد طعمه ونفعه إلا من آمن بالقرآن، ولا يحمله بحقه إلا المؤمن لقوله: {مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَاراً} [الجمعة: 5]، وتجد تحته أيضاً لا ينال معانيه ويفهمه كما ينبغي، إلا القلوب الطاهرة، وإن القلوب النجسة ممنوعة من فهمه، مصروفة عنه، فتأمل هذا السبب القريب، وعقد هذه الأخوة بين هذه المعاني وبين المعنى الظاهر من الآية، واستنباط هذه المعاني كلها من الآية بأحسن وجه وأبينه، فهذا من الفهم الذي أشار إليه عليّ رضي الله عنه. انتهى.